الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق ***
هو في اللغة ما يهدى إلى الحرم من شاة أو بقرة أو بعير الواحد هدية كما يقال جدي في جدية السرج ويقال هدي بالتشديد على فعيل الواحدة هدية كمطية، ومطي، ومطايا كذا في المغرب. (قوله: أدناه شاة، وهو إبل وبقر وغنم) يفيد أن له أعلى، وهو كذلك فإن الأفضل الإبل والأدنى الشاة والبقر وسط، وقد فسر ابن عباس رضي الله عنهما: {ما استيسر من الهدي} بالشاة، وأراد بالإبل والبقر والغنم بيان أنواع ما يهدى إلى الحرم فالهدي لغة وشرعا واحد لا أن تلك الأنواع تسمى هديا من غير إهداء إلى الحرم وحينئذ فإطلاق الهدي على غير الأنواع الثلاثة في كلام الفقهاء في باب الأيمان والنذور مجاز ثم الواحد من النعم يكون هديا بجعله صريحا هديا أو دلالة، وهي إما بالنية أو بسوق بدنة إلى مكة، وإن لم ينو استحسانا؛ لأن نية الهدي ثابتة عرفا؛ لأن سوق البدنة إلى مكة في العرف يكون للهدي لا للركوب والتجارة كذا في المحيط، وأراد به السوق بعد التقليد لا مجرد السوق، وأفاد ببيان الأدنى أنه لو قال: لله علي أن أهدي، ولا نية له فإنه يلزمه شاة؛ لأنها الأقل، وإن عين شيئا لزمه فإن كان مما يراق دمه ففيه ثلاث روايات في رواية أبي سليمان يجوز أن يهدي بقيمته؛ لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وما أوجبه الله تعالى في جزاء الصيد يتأدى بالقيمة فكذا ما أوجبه العبد، وفي رواية أبي حفص أجزأه أن يهدي مثله؛ لأنه في معناه، وفي رواية ابن سماعة لا يجوز أن يهدي قيمته؛ لأنه أوجب شيئين الإراقة والتصدق فلا يجوز الاقتصار على التصدق كما في هدي المتعة والقران بخلاف جزاء الصيد؛ لأنه كما أوجب الهدي أوجب غيره، وهو الإطعام، وهنا الناذر ما أوجب إلا الهدي فتعين، ولو بعث بقيمته فاشترى بمكة مثله وذبحه جاز قال الحاكم في المختصر ويحتمل أن يكون هذا تأويل رواية أبي سليمان، ومن نذر شاة فأهدى جزورا فقد أحسن، وليس هذا من القيمة لثبوت الإراقة في البدل الأعلى كالأصل. وقالوا إذا قال: لله علي أن أهدي شاتين فأهدى شاة تساوي شاتين قيمة لم يجزه، وهي مرجحة لرواية ابن سماعة فكان هو المذهب، وإن كان المنذور شيئا لا يراق دمه فإن كان منقولا تصدق بعينه أو بقيمته، وإن كان عقارا تصدق بقيمته، ولا يتعين التصدق به في الحرم، ولا على فقراء مكة؛ لأن الهدي فيه مجاز عن التصدق. ثم اعلم أنه إذا ألحق بلفظ الهدي ما يبطله لا يلزمه شيء كما لو قال: هذه الشاة هدي إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام عند أبي حنيفة؛ لأن اسم الهدي إنما يوجب باعتبار إضمار مكة بدلالة العرف فإذا صرح بالحرم أو المسجد تعذر هذا الإضمار إذ قد صرح بمراده. (قوله: وما جاز في الضحايا جاز في الهدايا) يعني فيجوز الثني من الإبل والبقر والغنم، ولا يجوز الجذع إلا من الضأن؛ لأنه قربة تعلقت بإراقة الدم كالأضحية فيتخصصان بمحل واحد والثني من الغنم ما تم له سنة، ومن البقر ما تم له سنتان، ومن الإبل ما تم له خمس واختلف في الجذع من الضأن فجزم في المبسوط أنه ابن سبعة أشهر عند الفقهاء وستة في اللغة، وفي غاية البيان أنه ما تم له ثمانية أشهر وشرط أن يكون عظيم الجثة أما إن كان صغيرا فلا بد من تمام السنة، وأفاد أنه يجوز للاشتراك في بدنة كما في الأضحية بشرط إرادة الكل القربة، وإن اختلفت أجناسهم من دم متعة، وإحصار وجزاء صيد وغير ذلك. ولو كان الكل من جنس واحد كان أحب بأن اشترى بدنة لمتعة مثلا ناويا أن يشترك فيها ستة أو يشتريها بغير نية الهدي ثم يشترك فيه ستة وينووا الهدي أو يشتروها معا في الابتداء، وهو الأفضل، وأما إذا اشتراها للهدي من غير نية الشركة ليس له الاشتراك فيها؛ لأنه يصير بيعا؛ لأنها كلها صارت واجبة بعضها بإيجاب الشرع، وما زاد بإيجابه، وإذا كان أحد الشركاء كافرا أو مريدا اللحم دون الهدي لم يجزهم، وإذا مات أحد الشركاء فرضي وارثه أن ينحرها عن الميت معهم أجزأهم استحسانا؛ لأن المقصود هو التصدق، وأي الشركاء نحرها يوم النحر أجزأ الكل، وأشار إلى أنه لا بد من السلامة عن العيوب كما في الأضحية فهو مطرد منعكس أي فما لا يجوز في الضحايا لا يجوز في الهدايا فعبارة الهداية أولى، وهي: ولا يجوز في الهدايا إلا ما جاز في الضحايا. فإنه لا يلزم من الإطراد الانعكاس ألا ترى إلى قولهم: وما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون أجرة في الإجارة لم يلزم انعكاسه لفساده لجواز جعل المنافع المختلفة أجرة لا ثمنا. (قوله: والشاة تجوز في كل شيء إلا في طواف الركن جنبا ووطء بعد الوقوف) يعني أن كل موضع ذكر فيه الدم من كتاب الحج تجزئ فيه الشاة إلا فيما ذكره، وليس مراده التعميم فإن من نذر بدنة أو جزورا لا تجزئه الشاة، وإنما لزمت البدنة فيما إذا طاف جنبا؛ لأن الجنابة أغلظ فيجب جبر نقصانها بالبدنة إظهارا للتفاوت بين الأصغر والأكبر ويلحق به ما إذا طافت حائضا أو نفساء، وليس موضعا ثالثا كما في فتح القدير؛ لأن المعنى الموجب للتغليظ واحد ووجبت في الجماع بعد الوقوف؛ لأنه أعلى أنواع الارتفاقات فيتغلظ موجبه، وأطلق فشمل ما بعد الحلق، وقد أسلفنا فيه اختلافا والراجح وجوب الشاة بعده فالمراد هنا الوطء بعد الوقوف قبل الحلق والطواف. (قوله: ويأكل من هدي التطوع والمتعة والقران فقط) أي يجوز له الأكل ويستحب للاتباع الفعلي الثابت في حجة الوداع على ما رواه مسلم من أنه عليه السلام: «نحر ثلاثا وستين بدنة بيده ونحر علي ما بقي من المائة ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها»؛ ولأنه دم النسك فيجوز منه الأكل كالأضحية، وأشار بكلمة من إلى أنه يأكل البعض منه والمستحب أن يفعل كما في الأضحية، وهو أن يتصدق بالثلث ويطعم الأغنياء الثلث ويأكل ويدخر الثلث، وأفاد بقوله هدي التطوع أنه بلغ الحرم أما إذا ذبحه قبل بلوغه فليس بهدي فلم يدخل تحت عبارته ليحتاج إلى الاستثناء فلهذا لا يأكل منه، والفرق بينهما أنه إذا بلغ الحرم فالقربة فيه بالإراقة، وقد حصلت والأكل بعد حصولها، وإذا لم يبلغ فهي بالتصدق والأكل ينافيه، وأفاد بقوله فقط أنه لا يجوز الأكل من بقية الهدايا كدماء الكفارات كلها والنذور، وهدي الإحصار، وكذا ما ليس بهدي كالتطوع إذا لم يبلغ الحرم، وكذا لا يجوز للأغنياء؛ لأن دم النذر دم صدقة، وكذا دم الكفارات؛ لأنه وجب تكفيرا للذنب، وكذا دم الإحصار لوجود التحلل والخروج من الإحرام قبل أوانه. قال في البدائع: وكل دم يجوز له أن يأكل منه لا يجب عليه التصدق بلحمه بعد الذبح؛ لأنه لو وجب عليه التصدق به لما جاز له أكله لما فيه من إبطال حق الفقراء وكل دم لا يجوز له الأكل منه يجب عليه التصدق بعد الذبح؛ لأنه إذا لم يجز أكله، ولم يتصدق به يؤدي إلى إضاعة المال، ولو هلك المذبوح بعد الذبح لا ضمان عليه في النوعين؛ لأنه لا صنع له في الهلاك، وإن استهلكه بعد الذبح فإن كان مما يجب عليه التصدق به يضمن قيمته فيتصدق بها؛ لأنه تعلق به حق الفقراء فبالاستهلاك تعدى على حقهم، وإن كان مما لا يجب التصدق به لا يضمن شيئا، ولو باع اللحم جاز بيعه في النوعين؛ لأن ملكه قائم إلا أن فيما لا يجوز له أكله ويجب عليه التصدق به يتصدق بثمنه؛ لأنه ثمن مبيع واجب التصدق. ا هـ. وهكذا نقله عنه في فتح القدير باختصار مع أنه قدم أنه ليس له بيع شيء من لحوم الهدايا، وإن كان مما يجوز له الأكل منه فإن باع شيئا أو أعطى الجزار أجره منه فعليه أن يتصدق بقيمته ا هـ. وقد يقال في التوفيق بينهما إنه إن باع مما لا يجوز أكله وجب التصدق بالثمن، ولا ينظر إلى القيمة، وإن باع مما لا يجوز له أكله وجب التصدق بالقيمة، ولا ينظر إلى الثمن، وأن المراد بالجواز في كلام البدائع الصحة لا الحل، وفي فتح القدير، ولو أكل مما لا يحل له الأكل منه ضمن ما أكل وبه قال: الشافعي وأحمد، وقال: مالك لو أكل لقمة ضمن كله. (قوله: وخص ذبح هدي المتعة والقران بيوم النحر فقط والكل بالحرم لا بفقيره) بيان لكون الهدي موقتا بالمكان سواء كان دم شكر أو جناية لما تقدم أنه اسم لما يهدى من النعم إلى الحرم، وأما توقيته بالزمان فمخصوص بهدي المتعة والقران، وأما بقية الهدايا فلا تتقيد بزمان، وأفاد أن هدي التطوع إذا بلغ الحرم لا يتقيد بزمان، وهو الصحيح، وإن كان ذبحه يوم النحر أفضل كما ذكره الشارح خلافا للقدوري، وأراد المصنف بيوم النحر وقته، وهو الأيام الثلاثة، وأراد بالاختصاص الاختصاص من حيث الوجوب على قول أبي حنيفة، وإلا لو ذبح بعد أيام النحر أجزأ إلا أنه تارك للواجب، وقبلها لا يجزئ بالإجماع، وعلى قولهما كذلك في القبلية، وكونه فيها هو السنة عندهما حتى لو ذبح بعد التحلل بالحلق لا شيء عليه، وعنده عليه دم ودخل تحت قوله والكل بالحرم الهدي المنذور بخلاف البدنة المنذورة فإنها لا تتقيد بالحرم عند أبي حنيفة ومحمد، وقال: أبو يوسف لا يجوز ذبحها في غير الحرم قياسا على الهدي المنذور والفرق ظاهر واتفقوا على أنه لو نذر نحر جزور أو بقرة فإنه لا يتقيد بالحرم، ولو نذر بدنة من شعائر الله أو نوى أن تنحر بمكة تقيد بالحرم اتفاقا كذا في المحيط، وقوله لا بفقيره بيان لجواز التصدق على فقراء غير الحرم بلحم الهدي لإطلاق الدلائل لكن التصدق على فقراء مكة أفضل كما في البدائع معزيا إلى الأصل. (قوله: ولا يجب التعريف بالهدي)؛ لأن الهدي ينبئ عن النقل إلى مكان التقرب بإراقة الدم فيه لا عن التعريف فلا يجب، وهو الذهاب به إلى عرفات أو التشهير بالتقليد والإشعار، ولم يذكر استحبابه؛ لأن فيه تفصيلا فما كان دم شكر استحب تعريفه، وما كان دم كفارة استحب إخفاؤه وستره؛ لأن سببها الجناية كقضاء الصلاة يستحب إخفاؤه، ولم يذكر المصنف سنن الذبح والنحر هنا لما سيصرح به في باب الذبائح والأضحية. (قوله:) (ويتصدق بجلاله وخطامه، ولا يعطي أجرة الجزار منه) أي الهدي والجلال جمع الجل، وهو ما يلبس على الدابة والخطام هو الزمام، وهو ما يجعل في أنف البعير لحديث البخاري مرفوعا: «أن عليا رضي الله عنه أمره عليه السلام أن يقوم على بدنة، وأن يقسم بدنة كلها لحومها وجلودها وجلالها، ولا يعطي في جزارتها شيئا»، وهي بضم الجيم كراء عمل الجزار، وأفاد أنه إن أعطاه منها أجرته ضمنه لإتلاف اللحم أو معاوضته، وقيد بالأجر؛ لأنه لو تصدق بشيء من لحمها عليه سوى أجرته جاز؛ لأنه أهل للصدقة عليه. (قوله: ولا يركبه بلا ضرورة)؛ لأنه جعله خالصا لوجه الله تعالى فلا ينتفع بشيء منه وصرح في المحيط بأن ركوبه لغير حاجة حرام وينبغي أن يكون مكروها كراهة تحريم؛ لأن الدليل ليس قطعيا، وأشار إلى أنه لا يحمل عليها أيضا، وإلى أن لو ركبها أو حمل عليها فنقصت فعليه ضمان ما نقص ويتصدق به على الفقراء دون الأغنياء؛ لأن جواز الانتفاع بها للأغنياء معلق ببلوغ المحل، وأطلقه فشمل ما يجوز الأكل منه، وما لا يجوز، وإنما جاز له حالة الضرورة لما رواه صاحب السنن مرفوعا: «اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا». وفي الصحيح اركبها ويلك في الثانية أو الثالثة حين رآه مضطرا إلى ركوبها، وفي جامع الترمذي ويحك أو ويلك، وفي البدائع ويحك كلمة ترحم وويلك كلمة تهدد، وعلل الإمام الناصحي في الجمع بين وقفي هلال والخصاف بأن البدنة باقية على ملك صاحبها فيجوز الانتفاع بها عند الضرورة ولهذا لو مات قبل أن تبلغ كانت ميراثا. ا هـ. وظاهر كلامهم أنها إن نقصت بركوبه لضرورة فإنه لا ضمان عليه. (قوله:) (ولا يحلبه) أي الهدي؛ لأنه جزؤه فلا يجوز له، ولا لغيره من الأغنياء فإن حلبه وانتفع به أو دفع إلى الغني ضمنه لوجود التعدي منه كما لو فعل ذلك بوبره أو صوفه، وفي المحيط ضمن قيمته فجعل اللبن قيميا، وفي غاية البيان ضمن مثله أو قيمته، وإن لم ينتفع به بعد الحلب تصدق به على الفقراء، وأشار إلى أنها لو ولدت فإنه يتصدق به أو يذبحه معها فإن استهلكه ضمن قيمته، وإن باعه تصدق بثمنه، وإن اشترى بها هديا فحسن. (قوله: وينضح ضرعها بالنقاخ) أي يرش بالماء البارد حتى يتقلص والنقاخ بالنون المضمونة والقاف والخاء المعجمة الماء العذب الذي ينقخ الفؤاد ببرده كذا في الصحاح والمغرب، وفي المصباح المنير ينضح من بابي ضرب ونفع فعلى هذا تكسر ضاده وتفتح قالوا هذا إذا كان قريبا من وقت الذبح، وإن كان بعيدا يحلبها ويتصدق بلبنها كي لا يضر بها ذلك. (وإن عطب واجب أو تعيب أقام غيره مقامه والمعيب له)؛ لأن الواجب في الذمة فلا يسقط عنه حتى يذبح في محله والمراد بالعطب هنا الهلاك، وهو من باب علم فهو كما لو عزل دراهم الزكاة فهلكت قبل الصرف إلى الفقراء فإنه يلزمه إخراجها ثانيا والمراد من العيب هنا ما يكون مانعا من الأضحية فهو كهلاكه، وإنما كان المعيب له؛ لأنه عينه إلى جهة، وقد بطلت فبقي على ملكه، وهل يدخل تحت الواجب هنا ما لو نذر شاة معينة فهلكت فإنه يلزمه غيرها أو لا لكون الواجب في العين لا في الذمة. (قوله: ولو تطوعا نحره وصبغ نعله بدمه وضرب به صفحته، ولم يأكله غني) أي، ولو كان المعطوب أو المتعيب تطوعا نحره وصبغ قلادته بدمه فالمراد من العطب هنا القرب من الهلاك لا الهلاك، وفائدة هذا الفعل أن يعلم الناس أنه هدي فيأكل منه الفقراء دون الأغنياء، وهذا؛ لأن الإذن في تناوله معلق بشرط بلوغه محله فينبغي أن لا يحل قبل ذلك أصلا إلا أن التصدق على الفقراء أفضل من أن يتركه لحما للسباع، وفيه نوع تقرب والتقرب هو المقصود. (قوله: وتقلد بدنة التطوع والمتعة والقران فقط)؛ لأنه دم نسك، وفي التقليد إظهاره وتشهيره فيليق به، وأفاد بقوله فقط أنه لا يقلد دم الإحصار، ولا دم الجنايات؛ لأن سببها الجناية والستر أليق بها ودم الإحصار جابر فيلحق بجنسها، ولو قلده لا يضره كذا في المبسوط، وقيد بالبدنة؛ لأنه لا يسن تقليد الشاة، ولا تقلد عادة ودخل تحت التطوع المنذور؛ لأنه لما كان بإيجاب العبد كان تطوعا أي ليس بإيجاب الشارع ابتداء فلذا ذكر في المحيط أنه يقلد دم النذر؛ لأنه دم نسك، وعبادة فإن قلت: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: «قلد هدايا الإحصار» قلت: جوابه أنه كان قلدها للمتعة فلما أحصر بقيت كما كانت فبعثت إلى مكة على حالها كذا في غاية البيان، ولم يذكر وقت التقليد؛ لأن فيه تفصيلا فإن بعثه يقلده من بلده، وإن كان معه فمن حيث يحرم هو السنة. (مسائل منثورة) ثابتة في بعض النسخ دون بعض، وقد جرت عادة المصنفين أنهم يذكرون في آخر الكتاب ما شذ وندر من المسائل في الأبواب السالفة في فصل على حدة تكثيرا للفوائد ويقولون في أوله مسائل منثورة أو مسائل متفرقة أو مسائل شتى أو مسائل لم تدخل في الأبواب أو فروع. (قوله: ولو شهدوا بوقوفهم قبل يومه تقبل وبعده لا) أي لو شهدوا بعدما وقف الناس بعرفة أنهم وقفوا يوم التروية قبلت شهادتهم، ولو شهدوا أنهم، وقفوا يوم النحر لا تقبل والقياس أن لا يجزئهم اعتبارا بما إذا وقفوا يوم التروية، وهذا؛ لأنه عبادة تختص بزمان، ومكان فلا تقع عبادة دونهما، وقد ذكر في الهداية للاستحسان وجهين الأول أنها لا تقبل لكونها على النفي. الثاني أنها تقبل لكن لا يستلزم عدم صحة الوقوف؛ لأن هذا النوع من الاشتباه مما يغلب، ولا يمكن التحرز عنه فلو لم يحكم بالجواز بعد الاجتهاد لزم الحرج الشديد المنفي شرعا، وهو حكمة قوله عليه السلام: «وعرفتكم يوم تعرفون» أي وقت الوقوف بعرفة عند الله تعالى اليوم الذي يقف فيه الناس عن اجتهاد ورأي أنه يوم عرفة. وذكر في معراج الدراية أن الوجه الثاني هو الأصح ورجحه في فتح القدير بدفع الأول؛ لأنها قامت على الإثبات حقيقة، وهو رؤية الهلال في ليلة قبل رؤية أهل الموقف فليست شهادة على النفي، وإذا كانت هذه الشهادة لا يثبت بها عدم صحة الوقوف فلا فائدة في سماعها للإمام فلا يسمعها؛ لأن سماعها يشهرها بين عامة الناس من أهل الموقف فيكثر القيل والقال وتثور الفتنة وتتكدر قلوب المسلمين بالشك في صحة حجهم بعد طول عنائهم فإذا جاءوا ليشهدوا يقول لهم انصرفوا فلا تسمع هذه الشهادة قد تم حج الناس، وكذا حج الشهود، ولو وقفوا وحدهم لم يجزهم، وعليهم إعادة الوقوف مع الإمام للحديث السابق، وكذا إذا أخر الإمام الوقوف بمعنى يسوغ فيه الاجتهاد لم يجز وقوف من وقف قبله واستشكل المحقق في فتح القدير تصوير قبول الشهادة في المسألة الأولى؛ لأنه لا شك أن وقوفهم يوم التروية على أنه التاسع لا يعارضه شهادة من شهد أنه الثامن؛ لأن اعتقاد الثامن إنما يكون بناء على أن أول ذي الحجة ثبت بإكمال عدة ذي القعدة واعتقاده التاسع بناء على أنه رئي قبل الثلاثين من ذي القعدة فهذه شهادة على الإثبات والقائلون إنه الثامن حاصل ما عندهم نفي محض، وهو أنهم لم يروه ليلة الثلاثين من ذي القعدة ورآه الذين شهدوا فهي شهادة لا معارض لها. ا هـ. فحاصله أن الشهادة على خلاف ما وقف الناس لا يثبت بها شيء مطلقا سواء كان قبله أو بعده، وهو إنما يتم أن لو انحصر التصوير فيما ذكره بل صورته لو وقف الإمام بالناس ظنا منه أنه يوم التاسع من غير أن يثبت عنده رؤية الهلال فشهد قوم أنه اليوم الثامن فقد تبين خطأ ظنه والتدارك ممكن فهي شهادة لا معارض لها ولهذا قال: في المحيط لو وقفوا يوم التروية على ظن أنه يوم عرفة لم يجزهم وبهذا التقرير علم أن المسألة تحتاج إلى تفصيل، ولا بدع فيه بل هو متعين. وقد بقي هنا مسألة ثالثة، وهي ما إذا شهدوا يوم التروية والناس بمنى أن هذا اليوم يوم عرفة ينظر فإن أمكن الإمام أن يقف مع الناس أو أكثرهم نهارا قبلت شهادتهم قياسا واستحسانا للتمكن من الوقوف فإن لم يقفوا عشية فاتهم الحج، وإن أمكنه أن يقف معهم ليلا لا نهارا فكذلك استحسانا، وإن لم يمكنه أن يقف ليلا مع أكثرهم لا تقبل شهادتهم ويأمرهم أن يقفوا من الغد استحسانا والشهود في هذا كغيرهم كما قدمناه، وفي الفتاوى الظهيرية، ولا ينبغي للإمام أن يقبل في هذا شهادة الواحد والاثنين ونحو ذلك. (قوله: ولو ترك الجمرة الأولى في اليوم الثاني رمى الثلاث أو الأولى فقط) بيان لكون الترتيب في الجمار الثلاث في اليوم الثاني ليس بشرط، ولا واجب، وإنما هو سنة ولهذا قدم قوله رمى الثلاث لمراعاة الترتيب المسنون؛ لأن كل جمرة قربة قائمة بنفسها لا تعلق لها بغيرها، وليس بعضها تابعا لبعض بخلاف السعي قبل الطواف أو الطواف قبل الوقوف فإنه شرع مرتبا على وجه اللزوم فلم يدخل وقته، ولولا ورود النص في قضاء الفوائت بالترتيب قلنا لا يلزم فيها أيضا؛ لأن كل صلاة عبادة مستقلة وبخلاف البداءة بالمروة؛ لأن البداءة من الصفا ثبت بالنص، وهو قوله: عليه السلام: «ابدءوا بما بدأ الله به» بصيغة الأمر بخلاف الترتيب في الجمار الثلاث فإنه ثبت بالفعل، وهو لا يفيد أكثر من السنة. (قوله: ومن أوجب حجا ماشيا لا يركب حتى يطوف للركن) أي بأن نذر الحج ماشيا، وفيه إشارة إلى وجوب المشي؛ لأن عبارة المختصر عبارة الجامع الصغير، وهي كلام المجتهد أعني أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه على ما نقله محمد عنه فيه، وهو إخبار المجتهد، وإخباره معتبر بإخبار الشرع؛ لأنه نائبه في بيان الأحكام كما في المعراج، وفي الأصل أي المبسوط لمحمد أيضا خيره بين الركوب والمشي، وعن أبي حنيفة أنه كره المشي فيكون الركوب أفضل وصحح ما في الجامع الصغير قاضي خان في شرحه واختاره فخر الإسلام معللا بأنه التزم القربة بصفة الكمال، وإنما قلنا إن المشي أكمل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج ماشيا كتبت له بكل خطوة حسنة من حسنات الحرم قيل، وما حسنات الحرم قال: واحدة بسبعمائة»، وإنما رخص الشرع في الركوب دفعا للحرج قال: في غاية البيان، ولا يرد عليه ما أورد في النوازل عن أبي حنيفة أن الحج راكبا أفضل؛ لأن ذلك لمعنى آخر، وهو أن المشي يسيء خلقه وربما يقع في المنازعة والجدال المنهي عنه، وإلا فالأجر على قدر التعب والتعب في المشي أكثر. ا هـ. لا يقال لا نظير للمشي في الواجبات، ومن شرط صحة النذر أن يكون من جنس المنذور واجبا؛ لأنا نقول بل له نظير، وهو مشي المكي الذي لا يجد الراحلة، وهو قادر على المشي فإنه يجب عليه أن يحج ماشيا ونفس الطواف أيضا، ولم يذكر المصنف محل وجوب ابتداء المشي؛ لأن محمدا رحمه الله. لم يذكره فلذا اختلف المشايخ فيه على ثلاثة أقوال قيل من بيته، وهو الأصح كذا في فتح القدير وغيره؛ لأنه المراد عرفا، وقيل من الميقات، وقيل من أي موضع يحرم منه واختاره فخر الإسلام والإمام العتابي وصححه في غاية البيان؛ لأنه نذر بالحج، والحج ابتداؤه الإحرام وانتهاؤه طواف الزيارة فيلزمه بقدر ما التزم، ولا عبرة بالعرف مع وجود اللفظ بخلاف الوصية بالحج فإنه يحج عنه من بيته؛ لأن الوصية تنصرف إلى الفرض في الأصل ولهذا يحج عنه راكبا لا ماشيا والمعول عليه هو التصحيح الأول ويدل عليه من الرواية ما عن أبي حنيفة لو أن بغداديا قال: إن كلمت فلانا فعلي أن أحج ماشيا فلقيه بالكوفة فكلمه فعليه أن يمشي من بغداد، وقوله لا عبرة بالعرف مع وجود اللفظ ممنوع بل المعتبر في النذور والأيمان العرف لا اللفظ كما عرف في محله، وفي فتح القدير، ولو أحرم من بيته فالاتفاق على أن يمشي من بيته، وإنما ينتهي وجوب المشي بطواف الزيارة؛ لأن به ينتهي الإحرام، وأما طواف الصدر فللتوديع، وليس بأصل في الحج حتى لا يجب على من لا يودع. وأفاد بقوله لا يركب أنه لو ركب لزمه الجزاء لترك الواجب فإذا ترك في الكل أو في الأكثر يلزمه الدم، وفي الأقل يلزمه التصدق بقدره من قيمة الشاة الوسط، ومقتضى الأصل أن لا يخرج عن عهدة النذر إذا ركب كما لو نذر الصوم متتابعا فقطع التتابع، ولكن ثبت ذلك نصا في الحج فوجب العمل به، وهو ما عن ابن عباس أن «أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي دما» رواه أبو داود، وهو محمول على عجزها عن المشي بدليل الرواية الأخرى، وأنها لا تطيق، وأطلق في الإيجاب فشمل ما إذا كان منجزا أو معلقا، وما إذا قال: لله علي أو علي حجة ماشيا، ولو قال: علي المشي إلى بيت الله الحرام، ولم يذكر حجا، ولا عمرة لزمه أحد النسكين استحسانا فإن جعله عمرة مشى حتى يحلق إلا إذا نوى به المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو مسجد من المساجد فإنه لا يلزمه شيء، وقوله علي المشي إلى مكة أو الكعبة كقوله إلى بيت الله، ولو قال: علي المشي إلى الحرم أو المسجد الحرام فإنه لا شيء عليه عند أبي حنيفة لعدم العرف بالتزام النسك به، وقالا يلزمه النسك احتياطا واتفقوا على أنه لا لزوم لو قال إلى الصفا أو المروة أو مقام إبراهيم أو إلى ستار الكعبة أو بابها أو ميزابها أو عرفات أو المزدلفة أو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكر مكان المشي غيره كقوله علي الذهاب إلى بيت الله أو الخروج ثم الحج المنذور يسقط بحجة الإسلام عند أبي حنيفة خلافا لمحمد فإذا نذر الحج، ولم يكن حج ثم حج، وأطلق كان عن حجة الإسلام وسقط عنه ما التزمه بالنذر؛ لأن نذره منصرف إليه، وإن كان قد حج ثم نذر ثم حج فلا بد من تعيين الحج عن النذر، وإلا وقع تطوعا كما حرره في فتح القدير، ومن نذر أن يحج في سنة كذا فحج قبلها جاز عن أبي يوسف خلافا لمحمد وقول أبي يوسف أقيس بما قدمناه في نذر الصوم. (قوله: ولو اشترى محرمة حللها وجامعها)؛ لأن منافعها مستحقة للمولى فيجوز له تحليلها بغير هدي غير أن البائع يكره تحليله لإخلاف الوعد حيث وجد منه الإذن والمشتري لم يوجد منه الإذن فلا يكره تحليله قيد بكونها محرمة؛ لأنها لو كانت منكوحة فليس للمشتري فسخ النكاح؛ لأنه قائم مقام البائع، وهو ليس له الفسخ بعد الإذن، وأطلق في إحرامها فشمل ما إذا كان بإذن البائع أو لا، وأشار بعطف الجماع على التحليل إلى أنه يحللها بغير الجماع كقص ظفر وشعر، وهو أولى من التحليل بالجماع؛ لأنه أعظم محظورات الإحرام حتى تعلق به الفساد فلا يفعله تعظيما لأمر الحج، ولا يقع التحليل بقوله حللتك بل بفعله أو بفعلها بأمره كالامتشاط بأمره، وأشار إلى أن للمشتري أن يحلل العبد المحرم لما قدمناه، وإذا كان له منعهما وتحليلهما ليس له الرد بالعيب، وإلى أن الحرة لو أحرمت بحج نفل ثم تزوجت فللزوج أن يحللها عندنا بخلاف ما إذا أحرمت بالفرض فليس له أن يحللها إن كان لها محرم فإن لم يكن لها فله منعها فإن أحرمت فهي محصرة لحق الشرع فلذا إذا أراد الزوج تحليلها لا تتحلل إلا بالهدي بخلاف ما إذا أحرمت بنفل بلا إذن له أن يحللها، ولا يتأخر تحليله إياها إلى ذبح الهدي كما قدمناه في باب الإحصار، ولو أذن لامرأته في حج النفل فليس له أن يرجع فيه لملكها منافعها، وكذا المكاتبة بخلاف الأمة، وفي فتح القدير، ولو جامع زوجته أو أمته المحرمة، ولا يعلم بإحرامها لم يكن تحليلا، وفسد حجها، وإن علمه كان تحليلا، ولو حللها ثم بدا له أن يأذن لها فأذن لها فأحرمت بالحج، ولو بعدما جامعها من عامها ذلك لم يكن عليها عمرة، ولا نية القضاء، ولو أذن لها بعد مضي السنة كان عليها عمرة مع الحج، ولو حللها فأحرمت فحللها فأحرمت هكذا مرارا ثم حجت من عامها أجزأها عن كل التحللات بتلك الحجة الواحدة، ولو لم تحج إلا من قابل كان عليها لكل تحليل عمرة والله سبحانه وتعالى أعلم.
|